«هل تسمعونني؟»: أن تكون صحفيًا في غزة اليوم

الخميس 02 تشرين الثاني 2023
تصميم محمد شحادة.

في أي ساحة تجري فيها المواجهة العسكرية هذه الأيّام ضمن معركة طوفان الأقصى، يستهدف جيش الاحتلال الإسرائيليّ الصحفيين ضمن حربه على كل صورة وصوتٍ، وهي حرب كذلك تطارد أرواح الصحفيين في كل هذه الساحات؛ بصواريخ وقنابل الطائرات في غزّة، وقذائف الدبابات في جنوب لبنان، ورصاص المستوطنين في الضفّة، والهراوات والغاز المسيّل للدموع في القدس والمدن الفلسطينية المحتلّة عام 1948.

استشهد مصوّر صحفي لبناني بقذيفة دبابة إسرائيلية في جنوب لبنان، وجُرح آخرون، واعتقل أفراد من عائلات صحفيين فلسطينيين في الضفّة واقتحمت بيوتهم، ويمنع التصوير أو الاقتراب من المناطق التي تشهد الاقتحامات تحت تهديد السلاح، إلّا بعد مغادرة الجيش، وعند الحواجز لا تشفع شارات الصحافة المثبتّة على سيّاراتهم للعبور، أو عدم تكسير معدّاتهم أو توقيفهم؛ لذا يلجأ الكثير منهم إلى المبيت خارج بيوتهم خوفًا من الاعتقال وتسهيلًا لحركتهم بعيدًا عن الحواجز، كما يفعل مراسل التلفزيون العربي عميد شحادة.

لاحظ شحادة كذلك تسهيل الاحتلال لصحفييه دخول الضفة من خلال كثرة سيّارات الصحفيين الإسرائيليين الداخلة إلى الضفة الغربية منذ بدء المعركة، وكيف يجري التنسيق بين الجيش والمستوطنين لمهاجمة سيّارات الصحفيين الفلسطينيين.

في القدس والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 يشهد الصحفيون لأول مرة حملة إجراءات تعسفيّة بحقهم، مثل الضرب بالهراوات والغاز المسيّل للدموع، والتهديدات أثناء قيامهم بالتغطية، وحتّى تفتيش الهواتف بحثًا عن مقاطع فيديو تكون ذريعة لتوقيفهم، كما تقول الصحفية المقدسيّة براءة أبو رموز. فيما شاهد العالم أكثر من مرةٍ كيف تعرّض صحفيون فلسطينيون للتهديد على الهواء مباشرةً من الشرطة والجيش وحتّى من صحفيين إسرائيليين، لكن من بين جميع المناطق يبقى ما يجري في غزّة هو الأقسى؛ إذ وصل عدد الشهداء من العاملين في الصحافة في غزّة إلى 36 شهيدًا،[1] ومفقوديْن اثنين، ولا يُعرف حتّى اللحظة عدد المصابين والشهداء من عائلاتهم، فيما دمّرت الطائرات بيوت أكثر من ثلاثين منهم على الأقلّ، حسب أرقام المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة.

استهداف الاحتلال برج فلسطين في قطاع غزة، الذي يضم مكاتب مؤسسات صحفية وإعلامية، في 7 تشرين الأول 2023. أ ف ب.

ليست أرقام المكتب الإعلامي الحكوميّ للشهداء والمصابين من الصحفيين نهائيّة، إذ إنّ العدد أكبر من المعلن عنه، بسبب كثرة العاملين في هذا الحقل من منتجين، وفنيي صوت، ومذيعين، وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بالإضافة إلى الصحفيين والمصورين من المتعاونين بشكل حرّ. كما يقول مدير العلاقات العامّة في المكتب الإعلامي الحكوميّ محمود الفرّا.

ومن لم تصل قنابل الطائرات إليه من الصحفيين في غزّة نزح مع عائلته من شمال ووسط القطاع إلى جنوبه. ينامون في خيم بجوار المستشفيات مع النازحين، ويواصلون نقل ما يجري إلى العالم بما توفّر من خدمات الكهرباء والإنترنت، وفي ظروفٍ يشحّ فيها الغذاء والماء، حتى وصلت بأحدهم أن يقسّم نصف لتر من مياه الشرب التي معه على ثلاثة أيّام لتكفيه.

الصحافة ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية

شاهد العالم صبيحة السابع من أكتوبر صور ومقاطع فيديو المدرعات الإسرائيلية يقودها المقاومون في شوارع غزّة، والدرّاجات الناريّة تنقل الأسرى الإسرائيليّين إلى وجهات غير معروفة، بالإضافة إلى مشاهد آثار ما تبقّى من دخان الرشقات الصاروخية التي غطّت عبور المقاومين إلى مستوطنات غلاف غزّة.

بُثّت هذه الصور والمشاهد من مكاتب المؤسسات الإعلاميّة الموجودة في عمارات وسط مدينة غزّة، ومن على أسطح عمارات أخرى اعتاد الصحفيون والمصوّرون ممن ليس للمؤسسات التي يعملون فيها مكاتب في القطاع اعتلاءها للتصوير.

عرف الصحفيون في ذلك اليوم أن الحدث غير مسبوق، وأن رد الفعل سيكون غير مسبوقٍ كذلك؛ لذا واصلوا العمل ونقل ما يجري إلى العالم دون أن يعودوا إلى بيوتهم، وكان منهم غازي العالول، مراسل فضائية رؤيا الأردنية، الذي يسكن مدينة غزّة.

أمضى العالول الأيّام الثلاثة الأولى من الحرب يعمل وينام في المكتب وسط مدينة غزّة بعيدًا عن زوجته الحامل في شهرها التاسع، وطفلته ذات السنتين. في اليوم الرابع غادر العالول إلى البيت لساعةٍ واحدةٍ؛ بدّل فيها ملابسه، واطمأن على العائلة، ثم عاد إلى المكتب، هناك سيخبره زملاؤه أن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيستهدف المنطقة بما فيها العمارة التي تضمّ مكتبهم؛ فغادر مع بقيّة الصحفيين إلى مستشفيات المدينة مثل مجمّع الشفاء الطبيّ وواصل عمله من هناك.

من لم تصله قنابل الطائرات من الصحفيين في غزّة، نزح مع عائلته من شمال ووسط القطاع إلى جنوبه. ينامون في خيم بجوار المستشفيات مع النازحين، ويواصلون نقل ما يجري إلى العالم بما توفّر من خدمات الكهرباء والإنترنت، وفي ظروفٍ يشحّ فيها الغذاء والماء

قصفت الطائرات هذه العمارات، مدمِّرةً أكثر من 50 مقرّ وسيلة إعلام، بالإضافة إلى عمارات أخرى تتركّز وسط مدينة غزّة اعتاد الصحفيون على بثّ ما يجري في كل حرب على غزّة منها.

هكذا، بهدم هذه المقارّ، يكون جيش الاحتلال قد حافظ على تقاليده في الحرب على غزّة في قَصف العمارات التي تضمّ مكاتب المؤسسات الإعلاميّة المحليّة والعربية والدوليّة، كما فعل في حروبه في الأعوام 2012 و2014 و2021.

مع اشتداد القصف على المدينة، وطلب جيش الاحتلال الإسرائيليّ من الناس -تحت التهديد- النزوح إلى جنوب وادي غزّة، حمل صحفيون معدّاتهم وعائلاتهم قاطعين بها القطاع من الشمال والوسط إلى الجنوب تحت القصف. يصف العالول المشهد يومها: «وين [نروح] ما تعرف، المهم نتحرّك، أخذنا سيّارة، ومنذ تلك اللحظة وإحنا متواجدين في جنوب القطاع».

ظلّ في الشمال بعض الصحفيين حول المستشفيات، وآخرون سيبقون بين الأحياء محاصرين إذ لم تفلح مساعيهم بالتوجه إلى الجنوب، لعدم توفر مكانٍ يتجهون إليه أو لعدم توفّر وسيلة نقل لعائلاتهم الممتدّة.

وصلت عائلة العالول مدينة خان يونس جنوبيّ القطاع، وغادروها بعد يومين بسبب شدّة القصف، متوغلين أكثر في الجنوب إلى منزلٍ في مدينة رفح لم يمضوا فيه غير ساعة واحدةٍ قبل أن يغادروه بسبب تعرّض العمارة التي كانوا فيها للقصف، وإصابة زوجته الحامل برجلها، إلى حيث يعمل العالول بين آلاف النازحين عند مجمع ناصر الطبي في خان يونس، ولم يمضوا في ذلك المكان غير يومين فقط بسبب سوء الظروف المعيشيّة.

توزّعت العائلة بعدها في ثلاث جهات؛ نساء العائلة؛ الزوجة والأم والأخوات إلى منزل قريبة للأم في خان يونس، الأب والأخ إلى مكانٍ آخر في نفس المدينة، والعالول إلى خيمةٍ بدائيّة عند المستشفى، سيمضي فيها قرابة أسبوعين دون أن يرى زوجته وطفلته الصغيرة.

يعمل العالول مع العشرات من الصحفيين على نقل ما يجري في غزّة من هذه الخيام التي شيّدها المكتب الإعلامي الحكومي عند مستشفيات قطاع غزّة، أو من خيام أخرى شيّدها الصحفيون أنفسهم من أغطية وما توفر من قطع قماش لتكون أماكن البث الوحيدة التي تتوفر فيها كهرباء وخدمات إنترنت مصدرها المستشفيات نفسها، ومن هناك تخرج الكثير من التغطيات، وإن كان بعض الصحافيين يخاطرون بترك المستشفيات لتغطية أماكن القصف ومشاهد المجازر في الأحياء القريبة.

على الأقدام يصل الكثير منهم إلى الركام والجثث، وتفتح الكاميرات عدساتها لتظهر للعالم ما تفعله الطائرات بالأطفال. في هذه اللحظات يتذكر العالول ابنته، ويتمنى أن يترك الميكروفون والكاميرا، «وأجري أجري بالشارع بدي أشوف أهلي وبنتي».

عاين الصحفيون من هذه الخيام الصعوبة في رفع الصور أو مقاطع الفيديو لوسائل الإعلام التي يعملون بها، أو الفشل في إجراء مكالمةٍ هاتفيّة قصيرة مع هذه المؤسسات بسبب تردي جودة الاتصال والإنترنت، ويعاينون الخوف اليومي على العائلة، تذكّرهم به أصوات الانفجارات أو سيّارات إسعاف تنقل المصابين والأشلاء إلى المستشفى، «إنه لا سمح الله وإنت بتغطي، وإنت بتصور، تلاقي حدّ منهم هو الشهيد أو المصاب أو الخبر اللي بدك تنقله». يقول العالول.

داخل هذه الخيام، لا يأمن الصحفيون على أنفسهم من القصف، مثلهم مثل طواقم الإسعاف وعاملي الإغاثة، «فيش كبير على الصاروخ» يقول أحدهم.

يزداد قلق الصحفيين على العائلة في ظلّ تقطّع الاتصالات وسماع صوت الانفجارات في الجهة التي يقيمون فيها. يتلقى الفرّا مكالمةً من زوجته كلّما قصفت الطائرات جوارهم: «وين صار الضرب؟ وين نروح؟» يطمئنهم، وإن لم يفلح في إجراء مكالمةٍ مع العائلة يخاطر ويسير إلى البيت بين الركام الذي يملأ الشوارع، وحلكة الليل التي لا تضيئها غير قنابل الطائرات، واحتمال الاستهداف بغارةٍ إسرائيلية، وهو يسير مستعيًنا على القنابل بالبسملة والتشهد، وفي ذهنه أن الموت أقرب إليه من أي حرب شهدها من قبل، بسبب استهداف الطائرات لكل ما يتحرّك، لكنه يقول: «الموت قادم لا محالة، لكن التغطية مستمرة، وهاي أرضنا».

ليس الموت السريع بقذائف الطائرات وحده ما يقلق الصحفيين في القطاع، ثمة موت بطيء تعانيه عائلاتهم كما تعانيه عائلات الناس في توفير ربطة خبز أو لتر مياه صالحة للشرب، وهي تتطلب الوقوف لساعات على طوابير الانتظار.

رفض المصور جيفارا الصفدي عروض عمل لمؤسسات إعلامية أجنبيّة لعدم توفر وقت للعمل بسبب ما يستغرقه من وقته الوقوف على هذه الطوابير. فيما يقول الصحفي سالم الريّس، وهو النازح من حي الرمال في مدينة غزّة، إن العمل وتوفير الطعام لعائلته لا يجتمعان معًا؛ لذا كلّف قريبًا له بالمهمّة الأخيرة: «مهو يا طوابير، يا شغل».

وقد طالت الحرب كذلك المؤسسات الإعلاميّة؛ فأوقفَ بثّ قناة الأقصى من قبل الشركة الفرنسيّة المشغلّة استجابة لضغوط فرنسية وإسرائيليّة، كما تقول القناة، وسعى الاحتلال جاهدًا إلى إغلاق أو وقف تغطية فضائيّة الجزيرة. وأخبرت «إسرائيل» مؤسسات صحافية دولية مثل وكالة رويترز بأنها لا تضمن سلامة طواقمها في غزّة. وهدد صحفيون بالقتل عبر الاتصال بهم من أرقام مخفيّة الهوية، جرت العادة الاتصال منها لتبليغ الناس بالإخلاء، وطلب منهم عدم التصوير أو التغطية من بعض المناطق في القطاع أو حتى مغادرة غزّة.

ليس الموت السريع بقذائف الطائرات وحده ما يقلق الصحفيين في القطاع، ثمة موت بطيء تعانيه عائلاتهم كما تعانيه عائلات الناس في توفير ربطة خبز أو لتر مياه صالحة للشرب، وهي تتطلب الوقوف لساعات على طوابير الانتظار.

وكان اليوم الأقسى على الصحفيين في غزة، يوم 25 تشرين الأول، حيث قتل الاحتلال أربعة صحفيين، وأفرادًا من عائلتيْ صحفيين اثنين آخرين، أحدهما مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح، والثاني المصوّر محمد الفرّا، وبعد يومين، في 27 تشرين الأول كرّر الاحتلال الادعاء بوجود أنفاق للمقاومة تحت مجمع الشفاء الطبيّ الذي يتجمّع فيه الصحفيون والمصورون، وكثّف القصف بجوار المستشفى الأندونيسي الموجود في الشمال، وبعد ساعةٍ قطع الإنترنت والاتصالات كليًا عن غزّة، بما فيها آخر الأماكن التي تبثّ إلى العالم ما يجري في القطاع.

انقطع اتصال الصحفيين مع عائلاتهم، ومع المؤسسات التي يعملون فيها، ومنهم العالول، الذي لا تبعد العائلة عن مكان عمله غير خمسة كيلومترات. يحسب العالول الوقت الذي تتطلبه المسافة مشيًا على الأقدام إليهم، لكنه يتراجع، من الذي سيخاطر بنفسه للخروج تحت هذا القصف؟

يقلق العالول أن تلد زوجته وهو بعيدٌ عنها، ويتذكّر حالات الإجهاض التي حدثت لنساء غزّيات في المستشفى الذي يعمل منه جراء القصف، يستبعد الفكرة من رأسه: «يا رب تخلص الحرب بأسرع وقت، بدي أسميّه أشرف على اسم أبويا».

يتذكّر العالول آخر اتصال أجراه مع عائلته، كانت الطفلة تكلّمه وقد تفاجأ أنها استطاعت التحدث بجملة مفهومة لأول مرة لتقول له: «بابا بكفي شغل»، بكى العالول حينها لأنه لم يشهد هذه اللحظات معها.
بعد 24 ساعة على قطع الاتصالات والإنترنت، استطاع بعض الصحفيين شبك هواتفهم على شبكات إنترنت ضعيفة: 
فكتب الريّس على صفحته في فيسبوك: «لا أعلم شيئًا عن أسرتي وعائلتي، تمكنت من وصل إنترنت مؤقت، ونعمل أكثر من المستحيل لنتمكن من استمرار التواصل».

في الليل، عندما ينتهي العمل، يتجوّل الريّس في الحيز الضيق الموجود بجوار المستشفى مصابًا بالإنفلونزا، بدرجة حرارة مرتفعة، بين النازحين ممن لا يعرفون ما يجري في العالم الخارجي بسبب عدم امتلاكهم خدمة إنترنت أو هواتف نقّالة، ويدخل معهم في حوارات قصيرة، يسألونه -كما لو أنه يعرف- «بيشوفك لابس خوذة ودرع كصحفي، بيطرحوا عليك أسئلة: إيش فيه إشي جديد؟ طيب العالم برا شايفنا؟».

  • الهوامش

    [1] هذه الأرقام حتى يوم 2 تشرين ثاني 2023

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية